ماذا تريد الولايات المتحدة من شرق سورية؟

بقلم توفيق المديني —
تحتفظ الولايات المتحدة الأميركية بوجود عسكري قوي في شرق سوريا، ولأهداف معلنة تقول عنها إنها تريد هزيمة تنظيم “داعش” الإرهابي، الذي لا يزال ينشط ميدانياً في الجيب المتبقي على الضفاف الشرقية لنهر الفرات في دير الشرقي ويهاجم “قوات سوريا الديموقراطية” في أطراف منطقتي الشعفة وأبو حسن ومحيط بلدة هجين الواقعة في الريف الشرقي لدير الزور.

الرواية الأمريكية
في الوقت الذي تعد فيه “قوات سوريا الديموقراطية” العدة للقضاء على تنظيم “داعش”، يحاول التنظيم الهروب إلى الأمام، وتنفيذ هجمات في مناطق مختلفة، بغية تشتيت القوات هذه، حيث دارت اشتباكات عنيفة بين الطرفين، بالتزامن مع مواصلة طيران التحالف الدولي القيام بالضربات الجوية على مواقع ومناطق سيطرة “داعش” ضمن جيبه الأخير بالقطاع الشرقي من ريف دير الزور.
وفي هذا السياق أعلن وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس منذ يومين، أن الجيش الأميركي سيقيم نقاط مراقبة على الحدود الشمالية لسوريا لتجنب التوتر بين تركيا وأكراد سوريا حلفاء التحالف الدولي المناهض للجهاديين. وأوضح أن الهدف هو التأكد من أن قوات سوريا الديموقراطية (تحالف فصائل كردية وعربية يدعمه التحالف)، “لن تنسحب من المعركة” ضد تنظيم “داعش”، و”لنتمكن من سحق ما تبقى من الخلافة الجغرافية”. وأضاف ماتيس أن مراكز المراقبة هذه “ستكون مواقع ظاهرة بوضوح ليلاً ونهاراً ليعرف الأتراك أين هي بالضبط”، لافتاً إلى أن هذا القرار اتخذ “بالتعاون الوثيق مع تركيا”. وكانت “قوات سوريا الديموقراطية” قد أعلنت في 11 تشرين الأول/أكتوبر الماضي استئناف عملياتها العسكرية ضد تنظيم “داعش” في شرق البلاد بعد عشرة أيام على تعليقها رداً على القصف التركي مناطق سيطرة الأكراد شمالاً.
ومنذ نهاية تشرين الأول/أكتوبر 2018، طغى التوتر على الأجواء في شمال سوريا مع بدء القوات التركية استهداف مناطق سيطرة وحدات حماية الشعب الكردية، العمود الفقري لـ “قوات سوريا الديموقراطية”، وتهديد أنقرة بشن هجوم واسع ضدها، الأمر الذي أربك الولايات المتحدة الأميركية الشريكة الأساسية لـ”قوات سوريا الديموقراطية”. وسعى التحالف الدولي طوال تلك الفترة إلى خفض التوتر عبر التواصل مع كل من “قوات سوريا الديموقراطية” وأنقرة.

أميركا وحماية تنظيم “داعش” الإرهابي
من وجهة نظر الدولة الوطنية السورية وحليفتها روسيا، فإنّ الولايات المتحدة هي التي تؤمن الحماية لإرهابيي “داعش”، كما تزودهم بالمعدات والأسلحة، وتقوم بتدريبهم في معسكرات خاصة، وتشرف على تنقلاتهم. وفي هذا السياق نقلت قناة “روسيا اليوم” عن مصادر قولها: “إنه عند الساعة الثالثة من بعد ظهر يوم الأربعاء 21 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، رُصد دخول رتل تابع لقوات ما يسمى التحالف الدولي يتكون من 7 عربات هامر إلى خطوط التماس مع تنظيم “داعش”، مشيرة إلى أن العربات السبعة عادت لكن بتسعة أي أنها أرفقت بعربتين زائدتين.
وأشارت “روسيا اليوم” إلى أنه خلال دخول الرتل كانت طائرات “التحالف الدولي” تشن غارات على مواقع في شرق الفرات السوري، مشددة على أن هذا الرتل يثير التساؤلات حول المهمة التي كان يقوم بها، وسبب ازدياد العربات، طارحةً سؤالا: من أين أتت هاتان العربتان؟ إذ تناقلت وسائل إعلامية أن الرتل العسكري الأميركي الذي وصل إلى المنطقة لم يخرج كما دخل. ‏
وفي نهاية عام 2017 نشرت هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” عن تعاون يجري بين واشنطن ومسلحي “داعش”، ونقلت عن أحد المدنيين في دير الزور تأكيده على أن ضباطاً أميركيين عرضوا عليه مبلغ 5000 دولار في مقابل نقل إرهابيي “داعش” إلى منطقة أخرى. ‏ وفي هذا السياق اتهمت كتائب “حزب الله” العراقية القوات الأميركية بمحاولة دفع عناصر تنظيم “داعش” للدخول إلى الأراضي العراقية من الجانب السوري. ‏
وقال المتحدث باسم الكتائب جعفر الحسيني: “الأميركيون حاولوا دفع عناصر “داعش” داخل الحدود العراقية، مشيراً إلى أن “التحركات الأخيرة لعناصر التنظيم على الحدود غايتها، إبقاء المنطقة مشتعلة”. ‏ وتابع: سيطرت الكتائب مع قوات حكومية عراقية على الحدود مع سوريا، ونرفض سيطرة أي قوة أجنبية على الأراضي العراقية وسننظر لأي وجود أميركي في العراق على أنه احتلال. ‏
ومهما يكن من أمر التبرير الذي يسوقه المسؤولون الأميركيون حول تواجد قواتهم العسكرية بهدف محاربة تنظيم “داعش” الإرهابي، فإنّ معظم المحللين المعنيين بقضايا إقليم الشرق الأوسط، يؤكدون أن الوجود العسكري الأميركي في الشمال الشرقي لسورية هو بمنزلة احتلال، وأنّ الولايات المتحدة لا تزال تقوم بتدريب الإرهابيين في منطقة التنف التي تنتشر فيها قواتها وهي تمنع تحسين الوضع الانساني في مخيم الركبان الذي يعاني فيه عشرات آلاف المهجرين ظروفاً معيشية في غاية السوء. ‏

أميركا والسيطرة على نفط دير الزور
فيما تبرر الولايات المتحدة الأميركية وجودها العسكري في الشمال الشرقي السوري، بأنه يستهدف طرد فول تنظيم “داعش” الإرهابي، فإنّ ما تعلنه واشنطن يخفي وراءه العوامل الفعلية التي تشكل الاستراتيجية الأميركية في شرق سوريا. ‏ فقد بدا مثلث الحدود السورية – العراقية – الأردنية منذ إطلاق موسكو عمليتها العسكرية خريف عام 2015، كأنه يتربّع على برميل بارود يمكن أن ينفجر في أي لحظة. فما الذي يحصل في هذه المنطقة الصحراوية المترامية الأطراف وغير المأهولة؟
الجواب، باختصار، إنّ المنطقة ساحة لمعركتين. تحمل الأولى عنواناً رئيسياً يجتمع حوله المتخاصمون: هزيمة “داعش” وتقاسم إرثه بعدما شارفت “خلافته” على لفظ أنفاسها الأخيرة. أما الثانية فتتفرّع عن الأولى وتتمثّل بحرب أميركية – إيرانية غير معلنة تتمحور حول شكل “الهلال الشيعي” الذي هدد حلفاء لطهران أخيراً بتحويله إلى “بدر” يلف إيران والعراق وسوريا ولبنان وبلداناً أخرى. ملامح هاتين المعركتين كانت بادية منذ بداية سنة 2017.
ويقول المحلل السوري حسن حسن، بأنه على المستوى التكتيكي، تريد واشنطن من وجودها في شرق سوريا أن يساعدها في ضبط السياسات الداخلية لبلاد الرافدين، خصوصاً مع ظهور نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية، وتأكد عدم فوز حليفها الأبرز رئيس الحكومة السابق حيدر العبادي، دفعا واشنطن إلى المحافظة على وجود عسكري في سوريا، كبوليصة تأمين للنفوذ الأميركي في العراق الذي أنفقت الولايات المتحدة الغالي والنفيس من أجل التحكم بمستقبله. ‏
أمّا على الصعيد الاستراتيجي، تستهدف الولايات المتحدة الأميركية تأكيد هيمنتها على الشمال الشرقي لسوريا، والمنطقة عموماً، عبر إنشاء عوازل جيو سياسية جديدة في الشرق الأوسط، تكون أصغر من الدول الإقليمية التي سبق واستندت إليها في الماضي. وتاريخياً استند الوجود العسكري الأميركي في المنطقة إلى قواعد عسكرية في الخليج، وتركيا إضافة إلى نشر قواعد بحرية في الخليج والبحر الأبيض المتوسط، وتلك القواعد كانت الركائز الأساسية لمواجهة الاتحاد السوفياتي إبان الحرب الباردة. ‏
وفي ظل الصراع المحتدم على السيطرة على ريف دير الزور، تسيطر “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) التي تدعمها الولايات المتحدة الأميركية عسكريًا، وباتت تمثل ذراعها العسكرية في المنطقة، على “حقل التنك”، ثاني أكبر حقول النفط في سوريا، بعد “حقل العمر” الذي سيطرت عليه “قسد”، في خريف 2017، ويقع في بادية الشعيطات.
وكانت “قسد” قد سبقت القوات السورية في السيطرة على حقل نفط العمر، شرق دير الزور، أكبر حقول النفط في سوريا.

أمريكا وإعادة الهندسة الإقليمية للدول الشرق أوسطية
بدأت هذه الهندسة التفكيكية للدول الوطنية العربية، انطلاقًا من العراق، حيث ادعت الولايات المتحدة الأميركية ومعها الدول الأوروبية الغربية بأن الهدف من وراء هذه الهندسة التفكيكية هو إحداث تغيير جوهري في بنية الدولة الوطنية العربية، بسبب عدم قدرتها على الاستيعاب السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، لجميع مكوّناتها.
كانت الاستراتيجية الأميركية في نظرتها إلى الشرق الأوسط تقوم على عزله حضارياً، كأحد الأهداف البارزة للسياسة الأميركية منذ نهاية تسعينيات القرن العشرين. وهو الهدف الذي تعزز مع ازدياد قدرة الولايات على التحرر من اعتمادها على نفط الشرق الأوسط. وبقدر ما أتاح هذا التأطير الحضاري الأورو-أطلسي درجة مرتفعة نسبياً من القدرة على حشد الحلفاء، خلف سياسيات إعادة الهندسة الإقليمية الأميركية في الشرق الأوسط، فإنّه قلّص كثيراً من فرص نجاح هذه السياسات في واقع بات معاديًا بشكل تام للحضور الغربي، على أسس ثقافية وقيمية عميقة بعدما راجت هذه المقولات عبر المنطقة، وفي واجدان سكانها، ووظفتها تيارات الإسلام السياسي المحافظة بشكل مكثف لتعزيز حضورها على حساب تيارات الليبراليين والعلمانيين، العقلانية.
فبعد الغزو الأميركي للعراق، طرحت إدارة الرئيس جورج بوش الابن في سنة 2004، مبادرة الشرق الأوسط الكبير، بذريعة محاولة إصلاح الدولة في الشرق الأوسط، وتجنب فشلها، مثلما كان الحال تاريخياً في تجارب إعادة البناء السابقة، من داخل الجماعة الأورو-أطلسية، والمؤسسات الدولية المانحة (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية) وثيقة الصلة بها. فالتأطير الحضاري الأورو-الأطلسي طرح استراتيجية التفكيك وإعادة البناء للدولة سواء عقب نهاية الحرب العالمية الثانية في كل من ألمانيا واليابان، أو عقب نهاية الحرب الباردة في شرق أوروبا، لكن فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، فإنّ الهندسة الأميركية المطروحة، كانت تقوم على تفكيك الدول الوطنية العربية على أسس طائفية ومذهبية وعرقية، وليس إعادة بناء الدولة الوطنية على أسس ديمقراطية كما حصل في كل من اليابان وألمانيا. هذا الإخفاق الأميركي، هو الذي أطلق حجر دومينو “الفوضى غير الخلاقة” في الشرق الأوسط، وليس إعادة بناء ممنهجة للدولة الوطنية وفق تبني استراتيجية التنمية المستدامة التي لا ترتهن للمنطق الريعي، وإنشاء عقد اجتماعي توافقي بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني، لا يمكن أن تخلقه إلا إرادة حازمة وواعية من قبل قادة الرأي والنخب المؤثرة.
وهكذا، فإنّ طرح الولايات المتحدة الأميركية مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي يقود إلى تفكيك الدول الوطنية العربية، وإنتاج خريطة “ويستفالية” جديدة للدولة في منطقة الشرق الأوسط تقوم على أسس مذهبية وإثنية، يقود إلى خلق فضاء صراعات جديد يهمش محورية القضية الفلسطينية بوصفها القضية المركزية التي تأسس حولها مفهوم كل السياسات القومية للدولة الوطنية السورية طوال ما يزيد على نصف قرن. ويستهدف مشروع الشرق الأوسط الكبير الأمريكي القضايا التالية:
أولاً: تصفية الصراع العربي – الصهيوني عبر تمرير “صفقة القرن”، من دون أن يجد حلاً عادلاً للقضية الفلسطينية، متجاوزاً بذلك قرارات الشرعية الدولية. فيفرض التطبيع مع الكيان الصهيوني على العرب، والتوطين على الفلسطينيين، باعتبار أن حدود الشرق الأوسط الأكبر تتسع لاستيعاب الفلسطينيين.
ثانياً: فرض الولايات المتحدة هيمنتها على المنطقة، من خلال فرض نظام حرية الأسواق وانفتاحها والتحاقها بالنظام الرأسمالي العالمي من منظور العولمة وجوهرها الليبرالية الاقتصادية الجديدة، وهذا يقتضي تدمير الدول الوطنية في منطقة الشرق الأوسط، باعتبارها تمثل العائق البنيوي أمام السيطرة الأميركية على منابع النفط استكشافاً وإنتاجاً وتكريراً ونقلاً وتأميناً، الأمر الذي يعبد لها الطريق للاستيلاء على قرار الطاقة في العالم، وحل قضاياها الاقتصادية ومعالجة أزماتها المزمنة وإعطاء العولمة زخماً جديداً بعد الانتكاسات المتتالية التي أصابتها نتيجة لتفاقم آثارها الكارثية المتمثلة في الأزمات المالية وتزايد معدلات الفقر، وتراجع معدلات النمو الاقتصادي. ولا تُخفى هنا النيات الأميركية في مواجهة اليابان والاتحاد الأوروبي والوقوف على بوابة الصين.
ثالثاً: اعتبار الكيان الصهيوني البلد الوحيد في الشرق الأوسط الذي يتمتع بالحرية، وبالتالي فهو الدولة الديمقراطية الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط، على الرغم من أن الكيان الصهيوني يمارس كل يوم أصناف متعددة من الإرهاب والعنصرية ضد شعب فلسطين.
رابعاً: تنطلق الولايات المتحدة الأميركية من تحديد النطاق الجغرافي لمشروع الشرق الأوسط الكبير، لتشمل جغرافياً بلداناً متفاوتة المستوى الحضاري والسياسي والاقتصادي والثقافي، وتمتد من المغرب الأقصى إلى حدود باكستان الشرقية. وهي وإن كان يغلب فيها انتشار الإسلام، إلا أنها تضم أمماً وشعوباً مختلفة، وكذلك ثقافات مختلفة. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تعرف ذلك، إلا أنها تصر على توسيع الشرق الأوسط على هذا النحو، كمنطقة ذات امتداد جيو سياسي، لخدمة أغراضها الاستراتيجية. من جهة، ولوضع “الإسلام” في مواجهة الحضارة الغربية تلبية لمخططات اليمين المحافظ المتطرف والمتصهين من جهة ثانية.
خامساً: تعتقد الولايات المتحدة و (أوروبا) أن هذه المنطقة التي دعتها “الشرق الأوسط الكبير” تعيش فراغًا سياسياً، وأنها من منطلق الفكر الاستعماري القديم، تستطيع أن تملأ هذا الفراغ، عبر تفكيك الدول الوطنية، وإعادة بنائها على أسس طائفية ومذهبية وعرقية، ضاربة عرض الحائط بشعوب المنطقة، وتطلعاتهم. لقد حاول (أيزنهاور) في أواخر الخمسينيات أن يملأ ما دعاه بـ(الفراغ) في المنطقة العربية، وفشل، وكانت بريطانيا قد حاولت قبله إجبار شعوب المنطقة على الانضواء في ما يدعى حلف بغداد وفشلت أيضاً. ويبدو أن الغرب (وأميركا على رأسه) لم يستطع حتى الآن أن يقتنع بالإقلاع عن الممارسات الاستعمارية وأساليب الغطرسة، والنظرة الفوقية إلى شعوب العالم. وهو يعتقد أنه لا يزال قادراً على فرض هيمنته وفرض قراراته على شعوب تدرك مراميه وقد خبرته عبر سنين طويل من الاستعمار والاستغلال.
سادساً: ينطلق مشروع الشرق الأوسط الكبير الأميركي (الأوروبي) من فكرة خاطئة أخرى مفادها أنه بالإمكان إسقاط الأنظمة الوطنية المناهضة للسياسة الأميركية والصهيونية عبر نشر استراتيجية “الفوضى الخلاقة”، وأنه انطلاقاً من إسقاط الدولة الوطنية السورية، فإنّه بالإمكان إقامة أنظمة جديدة في بلدان الشرق الأوسط الأكبر تستجيب لمتطلبات خدمة الأمن القومي الأميركي بالتلازم مع الأمن الصهيوني.

الخاتمة
لقد تصورت الولايات المتحدة، أنها بامتلاكها القوة العسكرية، تستطيع فرض وجودها كقطب مهيمن، وبالتالي فرض الخرائط الجديدة، وإعادة الهندسة الإقليمية لمنطقة الشرق الأوسط عبر تفكيك الدول الوطنية، واجتراح الكيانات أو إلغائها، وإدراج الشعوب في مسارات وفي تواريخ أو في وجهات تاريخية أخرى. هذا التصور (الإمبراطوري) إنما هو استمرار للنزعات الإمبراطورية منذ الاسكندر المقدوني وحتى الأزمة السورية الأخيرة.
غير أن الدولة الوطنية السورية بصمودها تحولت إلى بؤرة جديدة للمقاومة بحكم موقعها المتاخم للعراق، ولعبت دوراً محورياً في جهود استنزاف الوجود الأميركي في هذا البلد. ومثلت الحالة السورية، منذ بدايتها ولا تزال، حالة مثالية لتعاظم دور الجغرافيا السياسية في العلاقات الدولية، وخطر تأثيرها في بنية النظام الدولي بأسره، وليس فقط في بنية النظام الشرق الأوسطي.
فقد تموضعت سوريا منذ عام 2011، على خريطة جغرافيا سياسية متغيرة لقوى الشرق الأوسط، وتحولت إلى بؤرة رئيسة للصراع بين القوى الإقليمية الصاعدة، وحاولت الولايات المتحدة استغلال هذا الصراع لتأسيس نمط جديد من توازنات الضعف الإقليمي، تعفيها من التدخل في شؤون المنطقة. ويتمثل جوهر تلك الاستراتيجية في تقسيم المنطقة على أسس طائفية ومذهبية بين كيانات متناحرة، يستنزف بعضها بعضاً، ولا يمكن لأي منها الانتصار والهيمنة، بما يخفض أي حجم تهديد بالنسبة لإسرائيل، ويبقى جميع الأطراف الإقليمية تدور في مدار البحث عن رضا الولايات المتحدة ودعمها. غير أنّ هذه الاستراتيجية الأميركية-الصهيونية أخفقت في سوريا.
وبعد الانتصارات التي حققتها الدولة الوطنية السورية خلال السنة الحالية، فإنّها ترى في الوجود العسكري الأميركي في شمال وشرق سوريا، بمنزلة الاحتلال، لأنه وجود غير شرعي، ويتناقض مع أسس ومبادئ القانون الدولي، لكن الولايات المتحدة الأميركية تشرعن هذا الوجود العسكري تحت باب أنها تقود تحالفاً دولياً يضم أيضاً “قوات سوريا الديموقراطية” التي تشكل “وحدات حماية الشعب” الكردية عمودها الفقري، لمحاربة تنظيم “داعش” الإرهابي.
وفي الواقع، كانت الولايات المتحدة الأميركية ولا تزال تحمي التنظيمات الإرهابية، لا سيما تنظيم “داعش” الإرهابي، حيث تساعد القوات الأميركية المتمركزة في الشمال الشرقي لسوريا على تجميع فلول “داعش” الذين تمّ إخراجهم من الرقة وغيرها – بحماية أميركية فعلية – مع بقية “الأذرع البرية” المتواجدة في شمال وشرق البلاد في ما أسمته “جيش سوريا الجديد”، حيث تكمن الاستراتيجية الأميركية في مواصلة الحرب في سوريا بهدف استنزاف الجيش العربي السوري وحلفائه، والاستمرار في القيام بدورها التخريبي، والعمل على التحول إلى قوة احتلال مباشر وسافر يستخدم فريقاً مرتزقاً مكوّناً من إرهابيين دوليين وبعض “اللحديين” المحليين لتحقيق أهدافه.
والمفارقة أن سياسة الاحتلال العلني هذه تتنافى مع مبدأ “الواقعية السياسية” التي تدّعي واشنطن أنه سيكون أس استراتيجيتها المقبلة، فهذا المبدأ يحتّم عليها الانطلاق من الواقع أولاً، وبالتالي وجوب الاعتراف بالهزيمة الجيوسياسية التي تلقتها في سوريا، وعلى الأقل عدم انتصارها في هذه المعركة، الأمر الذي يعني ضرورة البحث عن أسلم طريق للخروج بأقل الخسائر الممكنة؛ وهذا هدف لا يمكن تحقيقه، كما أثبتت وقائع السنوات السابقة، إلا بالانخراط الجدّي في عملية سياسية تعترف بالواقع الجديد الذي فرضه صمود الدولة السورية بأقانيمها الثلاثة وكان حاملاً رئيساً لصعود أقطاب دولية أخرى، لكن واشنطن وبدلاً من ذلك تتابع الغوص في مستنقع لن يكون الخروج منه متاحاً في المرحلة المقبلة إلا بمشهد مماثل لمشهد الطائرة على سطح السفارة في “فيتنام”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

English